فصل: الرابع:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أبجد العلوم (نسخة منقحة)



.المنظر التاسع: في شروط الإفادة ونشر العلم:

وفيه فوائد:
فائدة:
اعلم: أن الإفادة من أفضل العبادة فلا بد له من النية ليكون ذلك ابتغاء لمرضاة الله تعالى وإرشاد عباده ولا يريد بذلك زيادة وحرمة ولا يطلب على إفادته أجرا اقتداء بصاحب الشرع- عليه الصلاة والسلام- ثم ينبغي له مراعاة أمور منها: أن يكون مشفقا ناصحا بصاحبه وأن ينبهه على غاية العلوم ويزجره عن الأخلاق الردية ويمنعه.
أن يتشوق إلى رتبة فوق استحقاقه وأن يتصدى للاشتغال فوق طاقته وأن لا يزجر إذا تعلم للرئاسة والمباهاة إذ ربما يتبنه بالآخرة لحقائق الأمور بل ينبغي أن يرغب في نوع من العلم يستفاد به الرئاسة بالأطماع فيها حتى يستدرجه إلى الحق.
اعلم: أن الله سبحانه وتعالى جعل الرئاسة وحسن الذكر حفظا للشرع والعلم مثل الحب الملقى حول الشبكة وكالشهوة الداعية إلى التناسل ولهذا قيل: لولا الرئاسة لبطل العلم وأن يزجر عما يجب الزجر عنه بالتعريض لا بالتصريح.
فائدة:
ومنها: أن يبدأ بالأهم للمتعلم في الحال إما في معاشه أو في معاده ويعين له ما يليق بطبعه من العلوم ويراعي الترتيب الأحسن حسبما يقتضيه رتبته على قدر الاستعداد فمن بلغ رشده في العلم ينبغي أن يبث إليه حقائق العلوم وإلا فحفظ العلم وإمساكه عمن لا يكون أهلا له أولى به فإن بث المعارف إلى غير أهلها مذموم.
وفي الحديث: «لا تطرحوا الدر في أفواه الكلاب».
وكذا ينبغي أن يجتنب إسماع العوام كلمات الصوفية التي يعجزون عن تطبيقها بالشرع فإنه يؤدي إلى انحلال قيد الشرع عنهم فيفتح عليهم باب الإلحاد والزندقة فينبغي أن يرشد إلى علم العبادات الظاهرة وإن عرض لهم شبهة يعالج بكلام إقناعي ولا يفتح عليه باب الحقائق فإن ذلك فساد النظام وإن وجد ذكيا ثابتا على قواعد الشرع جاز له أن يفتح عليه باب المعارف بعد امتحانات متوالية لئلا يتزلزل عن جادة الشرع.
فائدة:
اعلم: أنه يجب على الطالب أن لا ينكر مالا يفهم من مقالاتهم الخفية وأحوالهم الغريبة إذ كل ميسر لما خلق له.
قال الشيخ ابن سينا في الإشارات: كل ما قرع سمعك من الغرائب فذره في بقعة الإمكان ما لم يذرك عنه قائم البرهان. انتهى.
وإنما الغرض من تدوين تلك المقالات: التذكرة لمن يعرف الأسرار والتنبيه على من لا يعرفها بأن لنا علما يجل عن الأذهان فهمه حتى يرغب في تحصيله كما في الحديث: «إلا من العلم كهيئة المكنون لا يعرفها إلا العلماء بالله تعالى فإذا نطقوا لا ينكره إلا أهل العزة».
وروي عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أنه قال: «حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاءين أما أحدهما: فبثثته وأما الآخر: فلو بثثته لقطع هذا البلعوم».
وغرضهم عدم إمكان التعبير عنه وخوف مقايسة السامعين الأحوال الإلهية بأحوال الممكنات فيضلوا بسوء الظن في قائلها فيقابلوه بالإنكار. انتهى.
قلت: المراد بالدعاء الآخر أخبار دولة بني أمية- كما صرح به أهل الحديث- ومن قال بخلافه لم يأت بما يشفي الغليل فإن شئت الاطلاع على تمام الكلام في ذلك فارجع إلى القسطلاني ولا تغتر بأقوال هؤلاء الذين ليسوا من علم السنة المطهرة في ورد ولا صدر.
فائدة:
ومنها: أنه ينبغي أن لا يخالف قوله فعله إذ لو كذب مقاله بحاله ينفر الناس عنه وعن الاسترشاد به وأكثر المقلدين ينظرون إلى حال القائل وأما المحقق الذي لا ينظر إلى القائل فهو نادر فليكن عنايته بتزكية أعماله أكثر منه بتحسين علمه إذ لا بد للعالم من: الورع ليكون علمه أنفع وفوائده أكثر وأن يكظم غيظه عند التعليم وأن لا يخلطه بهزل فيقسو قلبه ولا يضحك فيه ولا يلعب ولا يبالي إذا لم يقبل قوله ولا بأس بأن يمتحن فهم المتعلم وأن لا يجادل في العلم ولا يماري في الحق فإنه يفتح باب الضلال وأن لا يدخل علما في علم لا في تعليم ولا في مناظرة فإن ذلك مشوش وكثيرا ما غلط جالينوس بهذا السبب وأن يحث الصغار على التعليم- سيما الحفظ- وأن يذكر لهم ما يحتمله فهمهم وإن كان الطلاب مبتدئين لا يلقي عليهم المشكلات وإن كانوا منتهين لا يتكلم في الواضحات ولا يجيب متعنتا في سؤاله ولا ما يلقى عليه من الأغلوطات وأن ينظر في حال الطالب إن كان له زيادة فهم بحيث يقدر على حل المشكلات وكشف المعضلات يهتم بتعليمه أشد الاهتمام وإلا فيعلمه بقدر ما يعرف الفرائض والسنن ثم يأمره بالاشتغال بالاكتساب ونوافل الطاعات لكن يصبر في امتحان ذهنه مقدار ثلاث سنين وإن سئل عما يشك فيه يقول: لا أدري فإن لا أدري: نصف العلم.

.المنظر العاشر: فيما ينبغي أن يكون عليه أهل العلم:

قال الفقيه أبو الليث: يراد من العلماء عشرة أشياء: الخشية والنصيحة والشفقة والاحتمال والصبر والحلم والتواضع والعفة عن أموال الناس والدوام على النظر في الكتب وقلة الحجاب وأن لا ينازع أحدا ولا يخاصمه.
وعليه أن يشتغل بمصالح نفسه لا بقهر عدوه.
قيل: من أراد أن يرغم أنف عدوه فليحصل العلم.
وأن لا يترفه في المطعم والملبس وأن لا يتجمل في الأثاث والمسكن بل يؤثر الاقتصاد في جميع الأمور ويتشبه بالسلف الصالح وكلما ازداد إلى جانب القلة ميله ازداد قربه من الله- سبحانه وتعالى- لأن التزين بالمباح وإن لم يكن حراما لكن الخوض فيه يوجب الأنس به حتى يشق تركه فالحزم اجتناب ذلك لأن من خاض في الدنيا لا يسلم منها البتة مع أنها مزرعة الآخرة ففيها الخير النافع والسم الناقع.
ففي تمييز الأول من الثاني أحوال منها: معرفة رتبة المال فنعم المال الصالح منه للصالح إذا جعله خادما لا مخدوما وهو مطلوب لتقوية البدن بالمطاعم والملابس والتقوية لكسب العلوم والمعارف التي هي المقصد الأقصى ومنها: مراعاة جهة الدخل فمن قدر على كسب الحلال الطيب فليترك المشتبه وإن لم يقدر يأخذ منه قدر الحاجة وإن قدر عليه- لكن بالتعب واستغراق الوقت- فعلى العامل العامي أن يختار التعب وإن كان من الأهل فإن كان ما فاته من العلم والحال أكثر من الثواب الحاصل في طلب الحلال فله أن يختار الحلال الغير الطيب كمن غص بلقمة يسيغها بالخمر لكن يخفيه من الجاهل- مهما أمكن- كيلا يحرك سلسلة الضلال ومنها: المقدار المأخوذ منه وهو قدر الحاجة في: المسكن والمطعم والملبس والمنكح إن جاوز من الأدنى لا يجوز التجاوز عن الوسط ومنها: الخرج والإنفاق فالمحمود منه الصدقة والإنفاق على العيال وقد اختلف في أن الأخذ والإنفاق على الوجه المشروع أولى أم تركه رأسا مع الاتفاق؟ على أن الإقبال على الدنيا بالكلية مذموم فالمقبلون على الآخرة والصارفون للدنيا في محله فهم الأفضلون من التارك بالكلية ومنهم عامة الأنبياء- عليهم السلام- ومنها: أن تكون نيته صالحة في الأخذ والإنفاق فينوي بالأخذ أن يستعين به على العبادة ويأكل ليتقوى به على العبادة.

.المنظر الحادي عشر: في التعلم:

وفيه فوائد أيضا:
فائدة:
اعلم: أن تكميل النفوس البشرية في قواها النظرية والعملية إنما يتم بالعلم بحقائق الأشياء وما هو إليه كالوسيلة وبه يكون القصد إلى الفضائل والاجتناب عن الرذائل إذ كان هو الوسيلة إلى السعادة الأبدية ولا شيء أشنع وأقبح من الإنسان مع ما فضله الله- سبحانه وتعالى- به من: النطق وقبول تعلم الآداب والعلوم من أن يهمل نفسه ويعريها من الفضائل.
وقد حث الشارع- عليه الصلاة والسلام- على اكتسابه حيث قال: «طلب العلم فريضة على كل مسلم».
وقال: «اطلبوا العلم ولو بالصين».
وقيل:«اطلبوه من المهد إلى اللحد».
فائدة:
اعلم: أن الإنسان مطبوع على التعلم لأن فكره هو سبب امتيازه عن سائر الحيوانات ولما كان فكره راغبا بالطبع في تحصيل ما ليس عنده من الإدراكات لزمه الرجوع إلى من سبقه بعلم فيلقن ما عنده ثم إن فكره يتوجه إلى واحد من الحقائق وينظر ما يعرض له لذاته واحدا بعد واحد ويتمرن عليه حتى يصير إلحاق العوارض بتلك الحقائق ملكة له فيكون علمه حينئذ بما يعرض لتلك الحقيقة علما مخصوصا ويتشوق نفوس أهل القرن الناشئ إلى تحصيله فيفزعون إلى أهله.
فائدة:
وكل تعليم وتعلم ذهني إنما يكون بعلم سابق في معلوم ما من عالم كمن ليس بعالم.
وقد يكون بالطبع مستفادا من وقائع الزمان بتردد الأذهان ويسمى: علما تجريبيا وقد يكون بالبحث وإعمال الفكر ويسمى: علما قياسيا.
والعلم محصور في التصور والتصديق والتصور: يطلب بالأقوال الشارحة والتصديق: يكون عن مقدمات في صور القياسات للنتائج فقد يحصل به اليقين وقد لا يحصل به الإقناع وقدموا في التعليم ما هو أقرب تناولا ليكون سلما لغيره.
وجرت سنة القدماء في التعليم مشافهة دون كتاب لئلا يصل العلم إلى غير مستحقه ولكثرة المشتغلين بها فلما ضعفت الهمم أخذوا في تدوين العلوم وصنفوا ببعضها فاستعملوا الرمز واختصروا من الدلالات على الالتزام فمن عرف مقاصدهم حصل على أغراضهم.
فائدة:
اعلم: أن جميع المعلومات إنما تعرف بالدلالة عليها بأحد الأمور الثلاثة: الإشارة والخط واللفظ فالإشارة: تتوقف على المشاهدة واللفظ: يتوقف على حضور المخاطب وسماعه وأما الخط: فلا يتوقف على شيء فهو أعمها نفعا وأشرفها وهو خاصة النوع الإنساني.
فعلى المتعلم أن يجوده ولو بنوع منه ولا شك أنه بالخط والقراءة ظهرت خاصة النوع الإنساني من القوة إلى الفعل وامتاز عن سائر الحيوانات وضبطت الأموال وحفظت العلوم والكمال وانتقلت الأخبار من زمان إلى زمان فجبلت غرائز القوابل على قبول الكتابة والقراءة.
لكن السعي لتحصيل الملكة هو موقوف على: الأخذ والتعلم والتمرن والتدرب.
فائدة:
اعلم: أن العلم والنظر وجودهما بالقوة في الإنسان فيفيد صاحبها عقلا لأن النفس الناطقة وخروجها من القوة إلى الفعل إنما هو بتجدد العلوم والإدراكات من المحسوسات أولا ثم ما يكتسب بالقوة النظرية إلى أن يصير إدراكا بالفعل وعقلا محضا فيكون ذاتا روحانية ويستكمل حينئذ وجودها.
فثبت أن كل نوع من العلوم والنظر يفيدها عقلا مزيدا وكذا الملكات الصناعية تفيد عقلا والكتابة من بين الصنائع أكثر إفادة لذلك فإنها تشتمل على علوم وأنظار إذ فيها انتقال من صور الحروف الخطية إلى الكلمات اللفظية ومنها إلى المعاني فهو ينتقل من دليل إلى دليل وتتعود النفس ذلك دائما فيتحصل لها ملكة الانتقال من الأدلة إلى المدلول وهو معنى النظر الفعلي الذي يكتسب به العلوم المجهولة فيحصل بذلك زيادة عقل ومزيد فطنة وهذا هو ثمرة التعلم في الدنيا.
فائدة:
ثم إن المقصود من: العلم والتعليم والتعلم معرفة الله سبحانه وهي غاية الغايات ورأس أنواع السعادات ويعبر عنها: بعلم اليقين الذي يخصه الصوفية أولو الكرامات وهو الكمال المطلوب من العلم الثابت بالأدلة.
وإياك أيها المتعلم أن يكون شغلك من العلم أن تجعله صنعة غلبت على قلبك حتى قضيت نحبك بتكراره عند النزع كما يحكى أن أبا طاهر الزيادي كان يكرر مسألة ضمان الدرك حالة نزعه.
بل ينبغي لك أن تتخذه سبيلا إلى النجاة.

.ذكر إحراق الكتب وإعدامها:

ومن أجل ذلك نقل عن بعض المشايخ: أنهم أحرقوا كتبهم منهم: العارف بالله- سبحانه وتعالى- أحمد بن أبي الحواري فإنه كما ذكره أبو نعيم في الحلية: لما فرغ من التعلم جلس للناس فخطر بقلبه يوما خاطر من قبل الحق فحمل كتبه إلى شط الفرات فجلس يبكي ساعة ثم قال: نعم الدليل كنت لي على ربي ولكن لما ظفرت بالمدلول علمت أن الاشتغال بالدليل محال فغسل كتبه.
وذكر ابن الملقن في ترجمته من طبقات الأولياء ما نصه: وقد روي نحو هذا عن سفيان الثوري أنه أوصى بدفن كتبه وكان ندم على أشياء كتبها عن الضعفاء.
وقال ابن عساكر في الكنى من التاريخ: إن أبا عمرو بن العلاء كان أعلم الناس بالقرآن والعربية وكانت دفاتره ملء بيت إلى السقف ثم تنسك وأحرقها.

.فائدة:

ذكرها البقاعي في حاشيته على شرح الألفية للزين العراقي وهي أنه قال: سألت شيخنا- يعني ابن حجر العسقلاني- عما فعل داود الطائي وأمثاله عن إعدام كتبهم ما سببه؟ فقال: لم يكونوا يرون أنه يجوز لأحد روايتها لا بالإجازة ولا بالوجادة بل يرون أنه إذا رواها أحد بالوجادة يضعف فرأوا أن مفسدة إتلافها أخف من مفسدة تضعيف بسببهم. انتهى.
أقول: وجوابه بالنظر إلى فن الحديث لا يقع جوابا عن إعدام ابن أبي الحواري وأمثاله لأن الأول: بسبب ضعف الإسناد والثاني: بسبب الزهد والتبتل إلى الله- سبحانه- ولعل الجواب عن إعدامهم: أنه إن أخرجه عن ملكه بالهبة والبيع ونحوه لا تنحسم مادة العلاقة القلبية بالكلية ولا يأمن من أن يخطر بباله الرجوع إليه ويختلج في صدره النظر والمطالعة في وقت ما وذلك مشغلة بما سوى الله- سبحانه وتعالى-.
فائدة: في طريق النظر والتصفية.
اعلم: أن السعادة الأبدية لا تتم إلا بالعلم والعمل ولا يعتد بواحد منهما بدون الآخر وأن كلا منهما ثمرة الآخر مثلا: إذا تمهر الرجل في العلم لا مندوحة له عن العمل بموجبه إذ لو قصر فيه لم يكن في علمه كمال وإذا باشر الرجل العمل وجاهد فيه وارتاض حسبما بينوه من الشرائط تنصب على قلبه العلوم النظرية بكمالها فهاتان طريقتان الأولى منهما: طريقة الاستدلال والثانية: طريقة المشاهدة وقد ينتهي كل من الطريقتين إلى الأخرى فيكون صاحبه مجمعا للبحرين.
فسالك طريق الحق نوعان:
أحدهما: يتبدى من طريق العلم إلى العرفان وهو: يشبه أن يكون طريقة الخليل- عليه الصلاة والسلام- حيث ابتدأ من الاستدلال. والثاني: يبتدئ من الغيب ثم ينكشف له عالم الشهادة وهو: طريق الحبيب صلى الله عليه وسلم حيث ابتدأ بشرح الصدر وكشف له سبحات وجهه- صلى الله عليه وسلم.

.مناظرة أهل الطريقين:

اعلم أن السالكين اختلفوا في تفضيل الطريقين.
قال أرباب النظر: الأفضل: طريق النظر لأن طريق التصفية صعب والواصل قليل على أنه قد يفسد المزاج ويختلط العقل في أثناء المجاهدة.
وقال أهل التصفية: العلوم الحاصلة بالنظر لا تصفو عن شوب الوهم ومخالطة الخيال غالبا ولهذا كثيرا ما يقيسون الغائب على الشاهد فيضلون وأيضا لا يتخلصون في المناظرة عن اتباع الهوى بخلاف التصوف فإنه تصفية للروح وتطهير للقلب عن الوهم والخيال فلا يبقي إلا الانتظار للفيض من العلوم الإلهية.
وأما صعوبة المسلك وبعده فلا يقدح في صحة العلم مع أنه يسير على من يسره الله- سبحانه وتعالى- عليه وأما اختلال المزاج فإن وقع فيقبل العلاج ومثلوا بطائفتين تنازعتا في المباهاة والافتخار بصنعة النقش والتصوير حتى أدى الافتخار إلى الاختبار فعين لكل منهما جدار بينهما حجاب فتكلف أحدهما في صنعته واشتغل الآخر بالتصقيل فلما ارتفع الحجاب ظهر تلألؤ الجدار مع جميع نقوش المقابل وقالوا: هذه أمثال العلوم النظرية والكشفية فالأول: يحصل من طريق الحواس بالكد والعناء والثاني: يحصل من اللوح المحفوظ والملأ الأعلى.
واعترض عليهم: بأنا لا نسلم مطلق الحصول لأن كل علم مسائله كثيرة وحصولها عبارة عن الملكة الراسخة فيه وهي لا تتم إلا بالتعلم والتدرب؟- كما سبق-.
ولعل المكاشف لا يدعي حصول العلوم النظرية بطريق الكشف لأنه لا يصدق إلا أن يقول بحصول الغاية والغرض منها.

.المحاكمة بين الفريقين:

وقد يقال: إنه قد سبق أن العلوم مع كثرتها منحصرة فيما يتعلق بالأعيان وهو العلوم الحقيقية وتسمى: حكمية إن جرى الباحث على مقتضى عقله وشرعية: إن بحث على قانون الإسلام وفيما يتعلق بالأذهان والعبارة وهي: العلوم الآلية المعنوية كالمنطق ونحوه وفيما يتعلق بالعبارة والكتابة وهي: العلوم الآلية اللفظية أو الخطية وتسمى: بالعربية ثم إن ما عدا الأول من الأقسام الأربعة لا سبيل إلى تحصيلها إلا الكسب بالنظر أما الأول: فقد يحصل بالتصفية أيضا.
ثم إن الناس منهم: الشيوخ البالغون إلى عشر الستين: فاللائق بشأنهم طريق التصفية والانتظار لما منحه الله- سبحانه وتعالى- من المعارف إذ الوقت لا يساعد في حقهم تقديم طريق النظر.
ومنهم: الشبان الأغبياء: فحكمهم حكم الشيوخ.
ومنهم: الشبان الأذكياء المستعدون لفهم الحقائق: فلا يخلو إما أن لا يرشدهم ماهر في العلوم النظرية فعليهم ما على الشيوخ وإما أن يساعدهم التقدير في وجود عالم ماهر مع أنه أعز من الكبريت الأحمر فعليه تقديم طريقة النظر ثم الإقبال بشراشره إلى قرع باب الملكوت ليكون فائزا بنعمة باقية لا تفنى أبدا.

.الباب الخامس: في لواحق الفوائد:

وفيه: مطالب.

.مطلب: لزوم العلوم العربية:

اعلم: أن مباحث العلوم إنما هي في المعاني الذهنية والخيالية من بين العلوم الشرعية التي أكثرها مباحث الألفاظ وموادها وبين العلوم العقلية وهي في الذهن.
واللغات: إنما هي ترجمان عما في الضمائر من المعاني ولا بد في افتتاحها من ألفاظها بمعرفة دلالتها اللفظية والخطية عليها وإذا كانت الملكة في الدلالة راسخة بحيث تتبادر المعاني إلى الذهن من الألفاظ زال الحجاب بين المعاني والفهم ولم يبق إلا معاناة ما في المعاني من المباحث.
هذا شأن المعاني مع الألفاظ والخط بالنسبة إلى كل لغة ثم إن الملة الإسلامية لما اتسع ملكها ودرست علوم الأولين بنبوتها وكتابها صيروا علومهم الشرعية صناعة بعد أن كانت نقلا فحدثت فيها الملكات وتشوقوا إلى علوم الأمم فنقولها بالترجمة إلى علومهم وبقيت تلك الدفاتر التي بلغتهم الأعجمية نسيا منسيا وأصبحت العلوم كلها بلغة العرب واحتاج القائمون بالعلوم إلى معرفة الدلالات اللفظية والخطية في لسانهم دون ما سواه من الألسن لدروسها وذهاب العناية بها.
وقد ثبت أن اللغة: ملكة في اللسان والخط: صناعة ملكتها في اليد فإذا تقدمت اللسان ملكة العجمة صار مقصرا في اللغة العربية لأن الملكة إذا تقدمت في صناعة أخرى- إلا أن تكون ملكة العجمة السابقة- لم تستحكم كما في أصاغر أبناء العجم.
وكذا شأن من سبق له أن تعلم الخط الأعجمي قبل العربي ولذلك ترى بعض علماء الأعجام في دروسهم يعدلون عن نقل المعمى من الكتب إلى قراءتها ظاهرا يخففون بذلك عن أنفسهم مؤونة بعض الحجب وصاحب الملكة في العبارة والخط مستغن عن ذلك.

.مطلب: العلوم العقلية وأصنافها:

أما العلوم العقلية التي هي: طبيعية للإنسان من حيث إنه ذو فكر فهي غير مختصة بملة بل يوجد النظر فيها لأهل الملل كلهم ويستوون في مداركها ومباحثها وهي موجودة في النوع الإنساني منذ كان عمران الخليقة وتسمى هذه العلوم: علوم الفلسفة والحكمة وهي مشتملة على أربعة علوم:

.الأول: علم المنطق:

وهو: علم يعصم الذهن عن الخطأ في اقتناص المطالب المجهولة من الأمور الحاصلة المعلومة.
وفائدته: تمييز الخطأ من الصواب فيما يلتمسه الناظر في الموجودات وعوارضها ليقف على تحقيق الحق في الكائنات بمنتهى فكره.

.الثاني: العلم الطبيعي:

ثم النظر بعد ذلك عندهم:
إما: في المحسوسات من الأجسام العنصرية والمكونة عنها من: المعدن والنبات والحيوان والأجسام الفلكية والحركات الطبيعية والنفس التي تنبعث عنها الحركات وغير ذلك ويسمى هذا الفن: بالعلم الطبيعي وهو: الثاني منها.

.الثالث: العلم الإلهي:

وإما: أن يكون النظر في الأمور التي وراء الطبيعة من الروحانيات ويسمونه: العلم الإلهي وهو: الثالث منها.

.الرابع:

وهو: الناظر في المقادير ويشتمل على: أربعة علوم وتسمى: التعاليم.
أولها: علم الهندسة.
وهو: النظر في المقادير على الإطلاق إما المنفصلة: من حيث كونها معدودة أو المتصلة: وهي إما ذو بعد واحد وهو: الخط أو ذو بعدين وهو: السطح أو ذو أبعاد ثلاثة وهو: الجسم التعليمي ينظر في هذه المقادير وما يعرض عليها إما من: حيث ذاتها أو من: حيث نسبة بعضها إلى بعض.
وثانيها: علم الأرتماطيقي.
وهو: معرفة ما يعرض للكم المنفصل الذي هو: العدد ويؤخذ له من الخواص والعوارض اللاحقة.
وثالثها: علم الموسيقى.
وهو: معرفة نسب الأصوات والنغم بعضها من بعض وتقديرها بالعدد.
وثمرته: معرفة تلاحين الغناء.
ورابعها: علم الهيئة.
وهو: تعيين الأشكال للأفلاك وحصر أوضاعها وتعددها لكل كوكب من السيارة والقيام على معرفة ذلك من قبل الحركات السماوية المشاهدة الموجودة لكل واحد منها ومن رجوعها واستقامتها وإقبالها وإدبارها.
فهذه: أصول العلوم الفلسفية وهي سبعة:
1- المنطق: وهو المقدم منها وبعده: التعاليم.
2- فالأرتماطيقي أولا.
3- ثم الهندسة.
4- ثم الهيئة.
5- ثم الموسيقى.
6- ثم الطبيعيات.
7- ثم الإلهيات.
ولكل واحد منها فروع تتفرع عنه.
فمن فروع الطبيعيات: الطب.
ومن فروع علم العدد: علم الحساب والفرائض والمعاملات.
ومن فروع الهيئة: الأزياج: وهي قوانين لحسابات حركات الكواكب وتعديلها للوقوف على مواضعها متى قصد ذلك.
ومن فروع النظر في النجوم: علم الأحكام النجومية.
واعلم: أن أكثر من عني بها في الأجيال الذين عرفنا أخبارهم الأمتان العظيمتان في الدولة قبل الإسلام وهما: فارس والروم فكانت أسواق العلوم نافقة لديهم- على ما بلغنا- لما كان العمران موفورا فيهم والدولة والسلطان قبل الإسلام وعصره لهم فكان لهذه العلوم بحور زاخرة في آفاقهم وأمصارهم.
وكان للكلدانيين ومن قبلهم من السريانيين ومن عاصرهم من القبط عناية بالسحر والنجامة وما يتبعها من الطلاسم وأخذ ذلك عنهم الأمم من: فارس ويونان فاختص بها القبط وطمى بحرها فيهم كما وقع في المتلو من خبر هاروت وماروت وشأن السحرة وما نقله أهل العلم من شأن البرابي بصعيد مصر.
ثم تتابعت الملل بخطر ذلك وتحريمه فدرست علومه وبطلت كأن لم تكن إلا بقايا يتناقلها منتحلو هذه الصنائع- والله أعلم بصحتها- مع أن سيوف الشرع قائمة على ظهورها مانعة من اختبارها.
وأما الفرس: فكان شأن هذه العلوم العقلية عندهم عظيما ونطاقها متسعا لما كانت عليه دولتهم من الضخامة واتصال الملك.
ولقد يقال: إن هذه العلوم إما وصلت إلى يونان منهم حين قتل الإسكندر دارا وغلب على مملكة الكينية فاستولى على كتبهم وعلومهم مالا يأخذه الحصر.
ولما فتحت أرض فارس ووجدوا فيها كتبا كثيرة كتب سعد بن أبي وقاص إلى عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- ليستأذنه في شأنها وتلقينها للمسلمين فكتب إليه عمر- رضي الله عنه- أن اطرحوها في الماء فإن يكن ما فيها هدى فقد هدانا الله بأهدى منه وإن يكن ضلالا فقد كفانا الله فطرحوها في الماء أو في النار وذهب علوم الفرس فيها عن أن تصل إلينا.
وأما الروم: فكانت الدولة منهم ليونان أولا وكان لهذه العلوم بينهم مجال رحب وحملها مشاهير من رجالهم مثل: أساطين الحكمة وغيرهم واختص فيها المشاؤون- منهم أصحاب الرواق- بطريقة حسنة في التعليم يقرؤون في رواق يظلهم من الشمس والبرد- على ما زعموا- واتصل فيها سند تعليمهم- على ما يزعمون- من لدن لقمان الحكيم في تلميذه بقراط ثم إلى تلميذه أفلاطون ثم إلى تلميذه أرسطو ثم إلى تلميذه الإسكندر الأفرودسي وتامسطيوس وغيرهم.
وكان أرسطو معلما للإسكندر ملكهم الذي غلب الفرس على ملكهم وانتزع الملك من أيديهم وكان أرسخهم في هذه العلوم قدما وأبعدهم فيها صيتا وكان يسمى: المعلم الأول فطار له في العالم ذكر.
ولما انقرض أمر اليونان وصار الأمر للقياصرة وأخذوا بدين النصرانية هجروا تلك العلوم كما تقتضيه الملل والشرائع فيها وبقيت في صحفها ودواوينها مخلدة باقية في خزائنهم ثم ملكوا الشام وكتب هذه العلوم باقية فيهم ثم جاء الله بالإسلام وكان لأهله الظهور الذي لا كفاء له وابتزوا الروم ملكهم فيما ابتزوه للأمم وابتدأ أمرهم بالسذاجة والغفلة من الصنائع حتى إذا تبحبح السلطان والدولة وأخذوا من الحضارة بالحظ الذي لم يكن لغيرهم من الأمم وتفننوا في الصنائع والعلوم تشوقوا إلى الاطلاع على هذه العلوم الحكمية بما سمعوا من الأساقفة والأقسة المعاهدين بعض ذكر منها وبما تسمو إليه أفكار الإنسان فيها فبعث أبو جعفر المنصور إلى ملك الروم: أن يبعث إليه بكتب التعاليم مترجمة فبعث إليه بكتاب أوقليدس وبعض كتب الطبيعيات فقرأها المسلمون واطلعوا على ما فيها وازدادوا حرصا على الظفر بما بقي منها، وجاء المأمون بعد ذلك وكانت له في العلم رغبة بما كان ينتحله فانبعث لهذه العلوم حرصا وأوفد الرسل على ملوك الروم في استخراج علوم اليونانيين وانتساخها بالخط العربي وبعث المترجمين لذلك فأوعى منه واستوعب وعكف عليها النظار من أهل الإسلام وحذقوا في فنونها وانتهت إلى الغاية أنظارهم فيها وخالفوا كثيرا من آراء المعلم الأول واختصوه بالرد والقبول لوقوف الشهرة عنده ودونوا في ذلك الدواوين وأربوا على من تقدمهم في هذه العلوم وكان من أكابرهم في الملة: أبو نصر الفارابي وأبو علي بن سينا بالمشرق والقاضي: أبو الوليد بن رشد والوزير: أبو بكر بن الصائغ بالأندلس إلى آخرين بلغوا الغاية في هذه العلوم، واختص هؤلاء بالشهرة والذكر واقتصر كثيرون على انتحال التعاليم وما ينضاف إليها من علوم النجامة والسحر والطلسمات ووقفت الشهرة في هذا المنتحل على مسلمة بن أحمد المجريطي من أهل الأندلس وتلميذه ودخل على الملة من هذه العلوم وأهلها داخلة واستهوت الكثير من الناس بما جنحوا إليها وقلدوا آراءها والذنب في ذلك لمن ارتكبه – {ولو شاء الله ما فعلوه}.
ثم إن المغرب والأندلس لما ركدت ريح العمران بهما وتناقصت العلوم بتناقصه اضمحل ذلك منها إلا قليلا من رسومه تجدها في تفاريق من الناس وتحت رقبة من علماء السنة، ويبلغنا عن أهل المشرق: أن بضائع هذه العلوم لم تزل عندهم موفورة وخصوصا في عراق العجم وما بعده فيما وراء النهر وأنهم على ثبج من العلوم العقلية لتوفر عمرانهم واستحكام الحضارة فيهم.
ولقد وقفت بمصر على تآليف متعددة لرجل من علماء هراة من بلاد خراسان يشهر: بسعد الدين التفتازاني منها: في علم الكلام وأصول الفقه والبيان تشهد بأن له ملكة راسخة في هذه العلوم وفي أثنائها ما يدل له على أن له اطلاعا على العلوم الحكمية وقدما عالية في سائر الفنون العقلية – {والله يؤيد بنصره من يشاء}- كذلك بلغنا لهذه العهد: أن هذه العلوم الفلسفية ببلاد الإفرنجة من أرض رومة وما إليها من العدوة الشمالية نافقة الأسواق وأن رسومها هناك متجددة ومجالس تعليمها متعددة ودواوينها جامعة متوفرة وطلبتها متكثرة- والله أعلم بما هنالك {وهو يخلق ما يشاء ويختار}-. انتهى.
قلت:
ثم انتقضت تلك السنون وأهلها ** فكأنها وكأنهم أحلام

ولم يبق اليوم في المشرق ولا في المغرب بل ولا في الجهات الأربع وما بها من المدن والأمصار والقرى من العلم إلا اسمه ومن الدين إلا رسمه وأباد الزمان أهله – {كأن لم يغنوا بالأمس}- فقد ذهب العلم برمته وجاء الجهل بأسره وكان أمر الله قدرا مقدورا.